من الاهداءات الجميلة التي وصلتني في شهر رمضان المبارك كتاب تراثي جديد؛ معجم أعلام التعمية واستخراج المعمى في التراث العربي والإسلامي، وهذا الكتاب غزير المضمون وهو من تأليف الزميل الدكتور يحيى مير علم، من قسم اللغة العربية بالهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب، والعضو المراسل في مجمع اللغة العربية بدمشق. الكتاب غني بمادته العلمية وفيه دقائق بحثية ثمينة، وخواطر نقية الفكر، سديدة العرض. وتم إخراج الكتاب في حُلة قشيبة وذلك ضمن إصدارات مجلة الوعي الإسلامي؛ تلك المجلة الكويتية الشهرية الجامعة ذات التاريخ العريق.
يقوم علم التعمية على ركيزتين هما التعمية (التشفير)، واستخراج المعمى (كسر الشفرة). أما التعمية فهي تحويل نص واضح إلى نص معمى غير مفهوم وذلك باستعمال طريقة محددة يستطيع من يعرفها أن يفهم النص الأصلي لغرض معين. وقد دل العلماء العرب على مصطلح التعمية بأسماء عدة؛ تعمية الحروف، والمعمى، والمترجم، والكتابة الباطنة، واستخراج الكلام، وإيضاح المرموز. وحول أهمية علم التعمية ذكر المؤلف أن تطبيقات هذا العلم تمس جميع العلوم والمجالات المعاصرة مثل النظم الأمنية والعسكرية، والحاسوبية، والانترنت، وقنوات البث الفضائية، والحسابات المصرفية وتحويلاتها، والكشف عن اللغات القديمة البائدة.
وعن أسباب اهتمام قدماء المسلمين بعلم التعمية أشار الكتاب إلى العوامل التي أدت إلى ظهور هذا العلم: نشاط حركة الترجمة عن اللغات الأخرى، وتقدم علوم الرياضيات، وازدهار اللغة العربية، وتطور علوم الكتابة والإدارة، وانتشار التعليم والقراءة والكتابة كما أن ظروف الحروب استدعت الحاجة الماسة إلى كتابة المعمى بين القادة.
يندرج الكتاب الجديد تحت باب كتب التراجم على العلوم والفنون ويؤكد أن للعرب قصب السبق في جمع أصول وطرائق ومنهجيات هذا العلم، وهو ما شهد به المنصفون من مؤرخي علم التعمية في العالم، يتقدمهم كبير مؤرخي هذا العلم البروفيسور ديفيد كان. وتؤكد كتابات ديفيد كان، على أن العرب مارسوا استخراج المعمى قبل الغرب بزمن طويل إلا أن معرفتهم تقلصت مع أفول حضارتهم، ولم يكتشف الغرب استخراج المعمى من جديد إلا في عصر النهضة.
توخى د. يحيى الايجاز في التعريف بأعلام علم التعمية في حضارتنا الإسلامية فذكر قرابة 80 ترجمة بدأت بإبراهيم بن عثمان القيرواني، وانتهت بفيلسوف العرب الكندي، ومن الشخصيات التي وردت في الكتاب ابن زيدون، وجابر بن حيان، والراغب الأصفهاني، والعلامة ابن خلدون المنشئ الأول لعلم الاجتماع. ولقد أحسن د. يحيى صنعا عندما ألحق بالتراجم نهاية المعجم فهرسا (بيبلوغرافيا) يتضمن توثيق أهم جهود المعاصرين ممن اهتموا بتاريخ علم التعمية واستخراجها في التراث العربي.
إن العمل الدؤوب في نشر كنوز التراث من الأمور الثقافية الضرورية لإعلاء شأن اللغة العربية التي بلغت شأوا عظيما في تفتيق العلوم، ورفد الثقافة، وشحذ الفكر الحضاري النقي. ولعل الحفريات المعرفية وسيلة عملية للمحافظة على الهوية الاجتماعية والتحفيز لاحتضان العلوم العصرية واللحاق بثورة البيانات المفتوحة والضخمة، والمساهمة في استثمارها وصناعتها، ونفض غبار التخلف العلمي.