في طفولتي أدركت العفوية والأبوية عند كبار السن، فعلمت أن رمضان شهر يختلف تماماً عن سائر الشهور، ففيه يتضاعف العطاء والكرم
حتى ترسّخ في أعماقي أن رمضان منارة سعادة وهداية. كانت الزيارات العائلية يومئذ تشيع مشاعر المودة والبهجة النورانية، بل كانت من مستلزمات قدوم شهر رمضان.نجح أهلنا قديماً في تحبيبنا بهذا الشهر الكريم، ونسأل الله سبحانه أن ننجح نحن في توريث هذا الحب لأطفالنا ولأوطاننا، لنقدم صورة نقية عن جماليات ديننا العظيم. ولعل سر نجاحهم سرعة الانقياد للفطرة النقية، وإعراضهم عن المواعظ المتكلفة، وإخلاصهم في تكافلهم الاجتماعي. أساس الدين حسن التعامل واليسر والبساطة والسماحة.أقبل شهر رمضان وهو للخير والعبادة والفرح عنوان، وللفضل والتعاون والبر والاجتهاد عنوان، وللرحمة والكرم والجود والمغفرة والحب عنوان. إنه شهر واسع في مضامينه المنضبطة، وتعاليمه الدقيقة، وفضائله المضيئة. الصيام برهان على الإيمان، ورياضة للأبدان، ودعوة للغفران. يفتح هذا الشهر أبوابه الواسعة لنجتهد في العبادة وتصفية النفس، ولنزع شوك الشحناء والبغضاء والكبرياء والكراهية والجفوة بين المتخاصمين. في فضاء شهر رمضان لحظات مضيئة تتخللها خواطر ندية تطهر قلوبنا، وتعيننا على تبصر أحوالنا بإخلاص، ومراجعة أنفسنا بشجاعة، وتطوير ذواتنا بذكاء.وفي شهر رمضان يزداد الشغف بطهي الطعام، فتتألق الأطباق الشهية، والمعجنات المتميزة، والمشروبات المتنوعة على الموائد في كل الأقطار، وتتنافس المحال والمطاعم في إعداد الأطباق اللذيذة، لا سيما الحلويات الشهية المحشية بالمكسرات والقشطة، فتزيد الموائد تنوعاً. ويتسابق الناس في إعداد الأكلات الرمضانية بجميع أصنافها، التي تجد طريقها إلى بيوت الجيران بداية، ثم المحتاجين، وبعدها تشق طريقها حتى تصل إلى بيوتات الرحمن قبل أذان المغرب تحديداً. ومن أجمل أقداري أنني أنجذب نحو المطبخ، إعداداً وعملاً وإشرافاً، وأجد متعة حقيقية في هذا المجال الجذاب، لدرجة أنني لا أقدر على وصف تلك المشاعر، لا سيما في رمضان وأثناء إعداد طاولة الطعام. ولقد عشت بضع سنين في أميركا، ولي فيها ذكريات جميلة بحمد الله، ورغم انشغالاتي في الغربة، فإن ارتباطي بالمطبخ ظل قوياً ومستمراً.إنه شهر التواصل والصدقات والتجديد وإسعاد الآخرين، وفرحة الصائم بفطره وبعبادته، والاجتماع العائلي الذي يعيد للعائلة حيويتها، وللمساجد تألقها، وللصدقة نورها، وللأوطان بهجتها، وللدنيا رونقها.ثلاثون يوماً من أخصب الأيام في ثناياها عبرة الصيام والقيام والسلام والاعتكاف والتفكر والتراحم. الصوم مدرسة تعلمنا العديد من الأمور الجليلة، ولعل أهمها الإخلاص، فنتدرب على ممارسة العمل أو تركه خشية من الله عز وجل، وطمعا في المثوبة. ويهدف شهر الصيام إلى علاج داء الرياء، ومَن يتخلص منه يدخل «باب الريان» بأمان. ضياء رمضان يبدد ظلمة الشك والحيرة والأحزان والشحناء من جهة، ويعلي من شأن المحافظة على الوقت، والتفاني في العمل، والسمو بالروح، والمحافظة على الجسد، والارتقاء بالفكر، وتقوية أواصر المجتمع.