للمتطرف قدرة هائلة على هدم المجتمع وتشويه أركانه المتينة وتخريب خزائنه الثمينة، لأن الدمار – بجميع صنوفه – لا يحتاج إلى ذهنية حصيفة، ولا يستوجب نية عفيفة، ولا يتطلب وسائل شريفة. والمتصفح لمناقشات شبكات الانترنت بين المتخاصمين يتوقف طويلا أمام الأفكار المتطرفة التي تجد رواجا إعلاميا رغم شناعتها في تقليل قدر المخالفين، واستباحة كرامتهم. التطرف في الخصومة يفسد النسيج المجتمعي.
إن فهم نفسية المتطرف المتغطرس خير وسيلة للتعامل الواعي معه، والشخص السوي أحيانا يتطرف في فهم بعض المواضيع فلا بد من توضيحات لهذه السلوكيات، وهنا محاولة تحليلية لعرض هذا الأمر. لا يمكن إيجاد خطاب عصري سليم إلا بتوفير بيئات راسخة تضمن توازن الشخصية، وتساهم بفاعلية في استقرارها.
ينحت المتطرفون لأنفسهم من جهة، ولجماعاتهم من جهة أخرى سياسات أساسها المواربة والمراوغة، ولديهم مقاييس للمفاصلة وتحجيم المخالفين لأطروحاتهم القائمة على اجتزاء نصوص دينية أو قانونية وتوجيهها إلى مقاصدهم الذاتية وإخضاعها لرغباتهم المنكوسة المكبوتة.
هذه العقلية المتطرفة المنغلقة أو المتحررة تحتقر وتقزم أي فكرة إنسانية لا تنساق معها، ولعل التعامل مع قضايا المرأة يكشف بجلاء ازدواجية فكر المتطرف، حيث يُضيق على أهله ملبسهن، وتجملهن، وحركتهن واختيار تخصصهن العلمي. والمتطرف ينفر من العلوم الإنسانية، ويجفل من التعاطف مع الفنون الشعبية والعالمية ويعتزلها، لأنها مبنية على الذوقيات والمقاربات والنسبية، وهي لذلك تتصادم مع فكر الوصاية المستحوذة على فكر المتطرف، إنه يزعم أنه القادر على فهم وامتلاك الحقيقة المطلقة. ومن هنا فإن المتطرف يضيق ذرعا من مفاهيم التنوع الفكري، وينفر من الرؤى الفلسفية والحوارات المعمقة، وتعدد الثقافات لأنها قائمة على تنوع الآراء والتعايش واحترام المخالفين.
ولأنه «كلما قل العقل قل الهم»، قال المتنبي:
«ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ
وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ».
وهكذا حال المتطرف ينعم ويسعد بفكره القاصر، لأنه يعتقد أنه على اليقين المطلق. في كتابه الفكري: «مدخل إلى التنوير الأوروبي»، يطرح هاشم صالح حقائق متنوعة تكشف طبيعة الشخصية المتطرفة، ومن أبرزها أن الشخص الأصولي المتزمت: «شخص سعيد جدا، ومطمئن جدا جدا، على عكس ما نتوهم. إنه أسعد خلق الله على الأرض. لماذا؟ لأنه يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة» (ص: 248). هذه هي «أزمة الأصولي أو – على الأصح – هذه هي أزمة المجتمع مع الوعي الأصولي» وكل ما يتوهمه الأصولي يصبح يقينا لديه كما يقول محمد علي المحمود في كتابه النقدي «تكفير التنوير» (ص: 30).
إن وظيفة الاعلام اليوم تعرية هذا الداء، داء التطرف بكل صوره بحكم أنه مرض عالمي. لا يقتصر التطرف على مجتمع أو دين، ومن أنجح وسائل محاربة التطرف إبراز سماحة الأديان من جهة، وكشف دور الفكر الإنساني الثائر الحر الذي يرفض رفضا قاطعا الوصاية. خلقَنا البارئ سبحانه وتعالى أحراراً، وعقولنا تعشق العيش في رحاب الحقوق المدنية الحافظة لكرامة الإنسان، وهل جاءت الأديان السماوية إلا لصيانة الحقوق ورعايتها لتنتظم الحياة بعيدا عن نيران الظلم؟!