انبثقت نواة فكرة الصالونات النسائية الثقافية منذ فترات تاريخية بعيدة، وأخذت مسميات عديدة، وتمظهرت في أشكال لا حصر
لتفاصيلها. ومن أهداف الصالونات الثقافية تهيئة فرص التلاقي بين أهل الفكر للتبادل المعرفي، والتعارف الاجتماعي، والترويح النفسي. ولقد ارتبط مصطلح «صالون» بالنخبة التي تتخصص في التباحث في ميادين العلوم والفنون. ولقد تطورت أشكال الصالونات النسائية عبر القرون فناقشت مختلف القضايا الاجتماعية والأدبية، ثم توسعت وتقدمت لتتضمن معالجة القضايا السياسية الحساسة، والفلسفية الشائكة. وفي الصالونات يتم عرض حصاد إصدارات الفكر بقدر كبير من الحرية والدقة.ولعل أول ظهور للصالونات الثقافية النسائية في المشرق العربي كان في المدينة المنورة، وذلك في عهد الدولة الأموية على يد السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب – رضي الله عنهم. أحبت السيدة سكينة المجالس الأدبية، وفيها أجازت كبار الشعراء في عصرها؛ جرير والفرزدق. كانت ندوة السيدة سكينة تجمع الشعراء والنابغين ممن يتعطشون للتشجيع، ويعشقون اللغة العربية وعلومها. لا جرم أن المصادر الأدبية ممتلئة بالروايات التاريخية الممتعة التي قد تحتاج الى الفحص والتمحيص. وفي بلاد الأندلس تألقت المرأة فظهرت شخصيات أدبية رائدة ومنها الأميرة ولادة بنت المستكفي – في القرن الخامس الهجري – تلك المرأة المعروفة في قرطبة بأناقة فائقة في مسلكها، حيث أتقنت فنون اللغة فأذهلت جمهرة من أهل الأدب عبر القرون.وفي عالمنا العربي المعاصر اقترن تاريخ الصالون الأدبي بالأديبة اللبنانية: مي زيادة – ماري إلياس زيادة – وهي كاتبة ذائعة الصيت، عذبة العبارة، عاشت في النصف الأول من القرن العشرين. قال عباس محمود العقاد عن صالون مي «لو جمعت الأحاديث التي دارت في ندوة الثلاثاء لتألفت منها مكتبة عصرية».وفي الغرب لمعت صالونات فتيات الطبقة الأرستقراطية حوالي القرن الثامن عشر، لا سيما في باريس. توسعت الصالونات النسائية لتمكين المرأة كما كان الرسامون في الوقت نفسه يعرضون انتاجاتهم في صالات مشهورة في باريس. وفي عصر النهضة كانت الصالونات الأوروبية تشهد تنامي أفكار المربي الفرنسي: جان جاك روسو، الذي نالت كتاباته في تربية الطفل اهتمام الأمهات المثقفات.وبفضل هذه الصالونات أصبح التاريخ الفرنسي على حد تعبير المؤرخ الأميركي وليام ديورانت «أكثر منه في أي وقت مضى ثنائي الجنس. وارتفع مقام النساء، وازداد أثرهن في الأدب واللغة والسياسة والفن. وعظم احترام المعرفة والفكر. وانتشر الاحساس بالجمال».إن تمكين المرأة والمناداة بتكافؤ الفرص سمة أساسية لنهضة الشعوب، وكل تمكين يجب أن يقوم على دعامة حب المعرفة، وتقدير القراءة تقديرا فائقا، وبناء جسور التبادل الثقافي. وهكذا شيدت الأدبيات النسائية في الجزيرة العربية، وفي بلاد الأندلس، وفي الغرب صروح المعرفة. هذه البصمات وغيرها كافية لتأصيل مسيرة المنتديات الثقافية النسائية والتطلع نحو تطويرها واستثمارها في البعث الثقافي. يعطي الشغف بالعلم عالم الأنوثة سعة في الأفق، ويشغل دنيا المرأة بأنشطة تنعش الفكر والوجدان والزمان لتفعيل التنمية.