لا تجعلوا العربية أثرًا
مرّ زمنٌ ليس بالبعيد كانت الفصاحة فيه لسان العرب في تواصلهم وأدبهم، فضلاً عن اللهجات المحلية التي صاحبت الفصاحة وقتئذٍ، والتي كانت مقيدة في الاستعمال الكلامي التواصلي، ولعله أثرها لم يكن كبيرًا في اختلال اللسان الفصيح، فظلّت ظاهرة معلومةً دون أن تصل إلى مرحلة الغزو اللغوي. وإن كان متاحًا آنذاك تصنيف العربية إلى صنفين؛ الأول اللغة المثالية الفصيحة، والثاني لغة الحاضرة، فإن تصنيفها يعود إلى ضوابط الاحتجاج عند النحويين القدامى، الذين أخذوا مفردات اللغة عن أهل البادية ذوي العربية السليمة التي لم تخالطها العجمة، دون أهل المدن أو الحاضرة الذين اختلطوا بالتجار الأجانب وروّاد أسواقهم، فدخل إلى معجمهم مفردات أعجمية غير فصيحة، وكانوا مضطرين للتداول بها لتيسير التواصل مع الناطقين بغير اللغة العربية. وأشار ابن جني إلى هذا الضابط في كتابه دلائل الإعجاز بتسميته بابًا عنوانه: (باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَرِ كما أُخِذَ عن أهل الوَبَرِ) وجعلَ عِلَّةَ امتناع ذلك ما تعَرَّضَت له لغاتُ الحاضرةِ من الاختلال والفساد والخَطَل نتيجة اختلاط أهل المَدَرِ بغير العرب.
على الرغم من وجود مفردات دخيلة في لغة أهل الحاضرة فإنهم حافظوا على هُويتهم اللغوية الأصيلة، لكن تصنيفهم جاء في المرتبة الثانية في اعتبار النحويين وقتئذٍ. فإذا افترضنا اليوم أن أحد النحويين أو اللغويين عزم على جمع شتات المفردات العربية وتصنيفها -مع الأخذ بعين الاعتبار أنها لغة شفوية مروية غير مدونة- وأخذ على نفسه ضوابط الاختيار نفسها التي انتهجها أمثاله في عصر الاحتجاج، فأين سيحط رحاله ليأخذ العربية من أهلها؟ وهل سيصنّف العربية التصنيف القديم نفسه، بين مثالية فصيحة ولغة حاضرة؟ لا تحتاج الإجابة كثيرًا من التفكير، فاللغة العربية صارت لغة الخطابات الرسمية والمخاطبات والرسائل الديوانية ووسائل الإخبار الرئيسة. ولولا التزام المسلمين بقراءة القرآن الكريم فصيحًا والأحاديث النبوية بلسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والشعر العربي بصورته الفصيحة الأصلية، لضاع من جمال اللغة أكثر مما هو ضائع الآن.
وإذا أردت الوقوف على الأطلال المشرفة على الساحة اللغوية في الوقت الراهن فستلاحظ كثيرًا من ملامح غربة اللغة العربية بين أبنائها، وستعاين مظاهرها عن كثب، ومن أبرزها:
- السلوك اللغوي: ويبدو ذلك في إقحام المصطلحات الأجنبية في لغة الكلام اليومي بغير ضرورة تقتضي ذلك، وينتشر ذلك في بعض الأسر وفي الوسط الدراسي وفي العمل، وخصوصًا إن تم إدخال اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم في مرحلة الطفولة، مما ينمي لديه فكرة الابتعاد عن اللغة الأم، ويصل الأمر ببعضهم إلى نعت العربي الذي لا يجيد الإنجليزية بالجاهل.
- اللغة المرئية: ويقصد بذلك كثرة المصطلحات الأجنبية ومفرداتها في واجهات المحال التجارية أو الشركات والمؤسسات عمومًا، مما أثّر سلبًا في عملية الإدراك اللغوي لدى المتلقي المشاهد وجعل عقله يعتاد اللغة الأجنبية ويستسيغها ويقلل من أهمية اللغة العربية إزاء ذلك.
- الخمول العلمي: تعرف اللغة العربية بأنها أدق اللغات البشرية وأكثرها صعوبة لاحتوائها على دقائق نحوية وصرفية ومعجمية وصوتية لكل منها دلالات خاصة بها في السياقات المختلفة، ولذلك يتذرع بعض العرب بصعوبة تعلم قواعد اللغة العربية الفصيحة، ولذلك ظهرت ازدواجية اللهجات مع الفصحى.
- شيوع الأجنبية: يلاحظ بسهولة أن اللغة الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية هما اللغتان الشائعتان في الفنادق والمستشفيات والمراكز والمطاعم والأسواق، ولابد أن يعتري أبناء العربية شعور بالنقص حين لا يستطيعون التفاهم مع العاملين في تلك الأماكن باللغة الأجنبية، على الرغم أنهم مقيمون على أرض عربية، وفي مجتمع عربي.
- الانفصام اللغوي: وهو حاصل بين اللغة العربية المنطوقة واللغة العربية المكتوبة، فتراه يتكلم العامية باعتزاز، ويكتب بالفصحى باعتزاز أكثر، والفارق بين الأسلوبين كبير.
المرير في تلك الظواهر أن عدد العارفين بجماليات اللغة وبلاغتها باتوا قلة قياسًا إلى أبنائها المتحدثين بها، ولوحظ ضعف المستوى القواعدي والجمالي لدى نسبة كبيرة من العرب، فغدت اللغة الجمالية الإبداعية غريبة حتى بين المتحدثين بها، ولعل أن المجتمع والمدرسة مسؤولان مباشران عن هذه الغربة، سببان رئيسان في ازديادها، حيث إن المجتمع العربي يسعى للذوبان في المجتمعات الغربية بحثًا عن الحضارة المزعومة مما يؤدي إلى هربهم من واقعهم وتخليهم عن أركان العروبة شيئًا فشيئًا، بدءًا باللغة وانتهاءً بالأرض. أما المدرسة فإن للتعليم دورًا خطيرًا في إهمال اللغة العربية وعدم زرع بذورها الجمالية أو تنمية الانتماء إليها في نفوس التلاميذ والطلبة، ففي كثير من المدارس الخاصة في الدول العربية يتم الاعتماد على اللغة الأجنبية في التدريس، ويتم اعتبار العربية مادة مكملة فقط، وهذا يورث لدى الطلبة نزعة التخلي والانسلاخ عن الهوية اللغوية.
وحصل أن تطورت غربة بعض اللغات بين أبنائها إلى هجرة لغوية من الاستعمالية إلى المتحفية، لأسباب قد تكون تراكمية أو فردية، كقرار فردي محض من رأس السلطة، بإحلال لغة مكان لغة، مما يؤدي إلى تعميم الجديدة مقابل إهمال الأصيلة خلال فترة لا تتجاوز سبعة أجيال فقط، كما حصل في تركيا التي تحولت لغتها من العثمانية إلى التركية، ومن رسم الحرف العربي إلى رسم الحرف الأجنبي، فصارت الفجوة مكتملة القطر بين الجيل الجديد وتراث أجداده العثمانيين، وصارت المخطوطات العثمانية حبيسة أدراج الإهمال والنسيان والمتاحف.
لكن اللغة العربية كانت أقوى من جميع المحاولات الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين لإحلال اللغات الأجنبية مكانها، مثل الفرنسية في الجزائر وتونس والمملكة المغربية، أو الإيطالية في ليبيا، وصمدت شامخة في مهب رياح تغيير الهوية العربية التي كادت تعصف بالأرض والدين واللغة. وهذا الصمود لم يكن كافيًا للحفاظ على اللغة العربية المثالية، وإنما حرصًا على إدراك اللهجات العربية من الاندثار وتلافي تشويه الأصوات العربية أمام هجمات العولمة، وما احتاج ذلك سوى إلى ألسنة أمينة وضمائر واعية.
نحن الآن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث تتربع التقنية الرقمية على عرش التحكم التواصلي بين الناس في جميع أنحاء العالم. وقد واكب العرب هذه التقنية باحتراف في أحايين كثيرة، وصارت تشكل جزءًا مهمًّا من معاملاتهم اليومية، وإن نظرة إحصائية موجزة إلى محتوى شبكة الإنترنت تطلعنا أن ذلك المحتوى لا يتضمن إلا 3% باللغة العربية، على الرغم من أن مستخدمي الإنترنت في الوطن العربي تجاوزوا حاجز 150 مليون مستخدمًا فاعلاً.
إن وظيفة اللغة العربية لا تقتصر على التواصل، بل إنها تشكّل هُويةً وكيانًا وقاسمًا مشتركًا رئيسًا بين العرب. وإن الشعور بفقدان هذا الرابط بين العرب أنفسهم يولد إحساسًا بالغربة الداخلية الأليمة، وهي توازي غربة اللغة العربية بين أبنائها العرب. فحين يصبح المتحدث باللغة الفصيحة ظاهرة بارزة في دولة عربية فسلامًا على أبنائها، فهم المغتربون عن هُويتهم على أرضهم العربية، وسلامًا على متحدثها الذي آثر أن يكون عربيَّ الانتماء والتفكير.
ولعل الناظر المتبصر في حال اللغة العربية بين الأمس واليوم يدرك عمق الشرخ الفكري والثقافي الذي اتسع نتيجة إهمال اللغة من أبنائها المتحدثين بها، وعدم مبالاة كثيرين بقدسية هذه اللغة وعظمتها، تلك اللغة التي كانت جوهرة التاج فخرًا واعتزازًا، والصارم القرضاب سلاحًا ذائدًا، والبلسم الشافي رقةً وعاطفة وتعبيرًا، كل ذلك في زمن كان العربي يعتز فيه بنسبه وحسبه ولغته، في زمنٍ يتبوأ الفصيح فيه رتبة علية بين قومه، وفي زمنٍ كانت القبيلة فيه تحتفل بنبوغ شاعر فيها، وفي زمنٍ نزلَ فيه القرآن العربيُّ بلغة عربية فصيحة وفق لسان قبيلة قريش، إعجازًا للعرب بما برعوا العرب به. فالمولى سبحانه وتعالى كان يرسل المعجزات على الأنبياء وفق ثقافتهم التي يجيدونها وقدراتهم التي يعتزون بها، فجعل معجزة إحياء الموتى على يد عيسى في قوم اشتهروا بالطب، وجعل معجزة الحيّة على يد موسى في قوم اشتهروا بالسحر، وجعل معجزة تعبير الرؤيا على يد يوسف في قوم يعتقدون يقينًا بالرؤى ويؤمنون بتحققها، وجعل معجزة القرآن الكريم على يد محمد في قوم اشتهروا بفصاحتهم، فكان التحدي عظيمًا ولو بآية واحدة من الكتاب العظيم.
فلماذا لم نعد ندرك هذه الأهمية العظيمة للغة العربية، ولماذا انصرف اهتمام العرب إلى سواها من اللغات، ولعلنا صرنا لا نستغرب ازدياد قيمة اللغة الإنجليزية وحضور اللغة الفرنسية في المجتمعات العربية، ليس في سبيل زيادة الثقافة الذاتية أو تنمية القدرات اللغوية، وإنما إحلالاً موازيًا للغة مقابل ضعف اللغة الأم وإهمالها. ووصل الإهمال ذروته حين بدأت المطبوعات باللغة العامية الشعبية تغزو معارض الكتاب مزاحمة المؤلفات المنضودة بالعربية الفصيحة، ووصل الأمر ببعض (الورّاقين) في دور النشر إلى رفض توزيع أو نشر دواوين الشعر العربية لأنها غير مرغوبة في سوق الكتب قياسًا إلى مبيعات المجموعات القصصية أو الروائية أو كتيبات الخواطر الرومانسية دون النظر إلى متانة سبكها وجودة حبكها وسلامة لغتها.
امتدت غربة العربية بين أبنائها وتطورت لتصل إلى غربتها بين أقرانها، فبعد أن كانت العربية لغة المطبوعات على أنواع علومها ومضامينها وألوانها الأدبية، صار ديوان العرب يجلس باستحياء مطولاً على أرفف معارض الكتب، ولولا جهود بعض الشخصيات أو المؤسسات التي تتبنى التوزيع المجاني والإهداءات لمثل هذه المؤلفات المدوَّنة بحسب معايير اللغة العربية، لبار الشعر قيمةً وغار البديع بألوانه، ورمست مفاعيلن مفاعيلن تحت غبار اللهجات وأتربتها الكثيرة.
كيف يلتم شمل اللغة العربية بأبنائها مجددًا؟
لا تحتاج اللغة العربية إلى بيئة خصبة لتنمو مجددًا، فهي مكتملة النمو تؤتي أكلها كل حين، ويظل العائق الوحيد قائمًا في التفات العرب لها بجدٍّ واحترام وقداسة، فهي لغة القرآن في الدنيا، ولغة أهل الجنة في الآخرى، ولغة التواصل المشترك بين جميع المتحدثين باللهجات العربية، فحين يُقال إن أحد مكونات العروبة اللغة العربية المشتركة، فلا يقصد بذلك اللهجات العربية المتعددة، فبعض أبناء العربية من دولة في مشرق الوطن العربي ربما لا يستطيعون التواصل الكلامي باللهجات المحلية مع آخرين عرب من مغربه، غير أن اتفاق الطرفين على الحديث بالعربية الفصحى يجعل الحوار بينهما واضحًا مفهومًا، ولذلك فإن اللغة هُوية انتماء إلى العروبة.
ولكن لابد من اتخاذ مجموعة من التدابير الضرورية لإدراك العربية الجمالية وبلاغتها، وقدرة الأجيال على نطقها بسهولة ويسر، واستعمالها في كلامهم بقواعدها الصحيحة دون لحنٍ أو خلل، وأول هذه التدابير يتمثل في الاتجاه إلى تكثيف دورات الاعتزاز باللغة كهوية عربية أولاً ولغة دينية ثانيًا ولغة جمالية إبداعية ثالثًا، بتعليم القرآن الكريم وتجويده في مراحل التعليم المختلفة بشكل مكثف، وزيادة الوعي بأهميتها وضرورة الحفاظ عليها. فضلاً عن اتخاذ إجراءات حكومية صارمة تجاه الشركات والمحال والأسواق والهيئات بإجبارها على تعريب المصطلحات على واجهاتها. وإجبارها أيضًا على تشجيع اللغة العربية لدى العاملين لديها وتعليمهم لغة البلاد التي يقيمون فيها.
ومما يجعل الأمل متصلاً عن مستقبل اللغة العربية، أنها لغة القرآن العظيم المصون عن التحريف والتجديد، فستظل حية لارتباطها به، ولارتباطها بتراث أدبي ثري يمثل اعتزازًا حقيقيًّا للعرب جميعًا.
المراجع
1- حال اللغة العربية بين أبناِئها، مروة فوزي محمد، ندوة الكلمة2، بحث منشور في الموقع الإلكتروني: الدكتور محمد داود http://www.mohameddawood.com
2- غربة اللغة العربية وسط أبنائها، وداد نوفل، بحث منشور في المدونة الإلكترونية: شمس العربية، http://arabicsun.blogspot.com
3- لغة الضاد في بلاد العرب.. غربة وإهمال، كوثر الخولي، جريدة العربي الجديد، 22 فبراير 2015.
4- لغتنا التي نهملها وتشكونا.. غربة لغة الوحْيَيْن في ديارها، منذر الأسعد، مقال منشور بتاريخ 6 ذو القعدة 1438، في الموقع الإلكتروني http://almoslim.net
5- اللغة العربية بين الغربة والاغتراب، عزيز عياد، مقال منشور في صحيفة اللغة العربية صاحبة الجلالة. http://www.arabiclanguageic.org
6- اللغة العربية تشعر بالغربة وتقاوم الانقراض، صحيفة الغد، عمّان، المملكة الأردنية الهاشمية، 25 يوليو 2015.
7- اللغة العربية في عصر العولمة، أحمد بن محمد الضبيب، مكتبة العبيكان، المملكة العربية السعودية، لا. تا، ص 171.
8- مجلة الفيصل، مجلة ثقافية شهرية، العدد 257، مارس 1998، ص 133.