نستقبل في هواتفنا النقالة رسائل عديدة بصفة يومية، وكثير منها رسائل تنير حياتنا، وتشعل في ضمائرنا وعقولنا مشاعر نبيلة واتجاهات صالحة، لكن بعض المحتويات الواردة مشوهة المباني، فاسدة المعاني لأنها باختصار لا تحتكم للحقائق، وتشوب مفاصلها وتفاصيلها الريبة. لا قيمة للتدفق المعرفي من غير استقلالية فكرية مبنية على تطوير حصانة ذاتية لتخليص المعلومات المتراكمة من الشوائب من جهة، واستخلاص النافع منها لتوظيفها في الواقع على بصيرة من جهة أخرى.ولما كان العلم نقيض الوهم، فإن الكثير من الناس يقع في خطأ نقل المعلومات من دون تحكيم العقل، فنجد معلومات طبية أو قانونية وغيرها تمس حياتنا اليومية، ويتم تداولها من دون أن تذيل بذكر المصدر. «انشر تؤجر» في نهايات كثير من الرسائل، ربما عكست وكشفت بوضوح التبعية العقلية، والفراغ الثقافي، وضعف التأسيس الإعلامي. وهذه الظاهرة قد تصيب الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية والوظيفية، ويحتار المرء عندما تصله معلومات بحاجة للتدقيق، خالية من التوثيق، مليئة بالمبالغات، غارقة بالتسطيح والسذاجة.كثيرون بغرض لفت الانتباه لا يحفلون بتحليل ما يصل إليهم، وقد ينجرفون أحيانا مع المبالغات فيصدقون ما يسمعون ويحرصون على تمرير المعلومات بل نقل الشطحات والأكاذيب من دون إعمال الفكر. الهدف الكامن وراء هذا التسرع هو مجرد الفوز بالسبق الإعلامي، والحرص على البروز. سلوكيات «انشر تؤجر» ربما أصبحت بوابة لنقل ركام من المعلومات العديمة الجدوى، الفاقدة الصلاحيات، ويحدث ذلك حباً في التواجد وجذب انتباه الآخرين، أو انجرافًا مع عواطف دينية غير ناضجة، أو نقصًا في التأسيس العلمي لدى الناقل الذي «يهرف بما لا يعرف». إن عدم اعتياد التفكير الناقد أزمة تعليمية حقيقية لا سيما في عالمنا العربي، وقد تزيدها الأجهزة التكنولوجية الحديثة ارتباكًا وضياعًا وغموضًا. إن غربلة المعلومات وتمحيصها، وفلترتها فلترة ناقدة حاجة تمليها الأمانة، فليس من المنطق أن ينشغل المرء ويجهد نفسه في إرسال رسائل قد تؤسس الجهل، وترسخ الخرافات، وتبدد الأوقات بأمور عديمة الجدوى، وأحيانا تتضمن تجريحا للآخرين.إن الهوس بتكديس المعلومات الدينية والطبية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتقنية، والمبادرة في نشرها على نطاق واسع في شبكات التواصل، من الخطورة بمكان بل هي أسرع وسيلة لهدر الجهود، وهدم الثقافة.من دعائم السلوك الحضاري تحري الدقة والاعراض عن نقل البيانات المضللة. تؤكد الأحاديث النبوية الشريفة على حماية الوقت، وصيانة العقل، ورعاية النسيج المجتمعي، فوردت توجيهات مستفيضة قوامها التوقف عن بث المرويات الضارة. ليس كل ما يصل إلينا نذيعه، ومما ورد في هذا الباب «كفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع» (رواه مسلم). وهكذا فإن الظنون من أكذب الأقوال، ووكالة «يقولون» أساس هش، وكل من يتحرى الصواب يدرك أن كلمة «يقولون» قد تصبح بوابة الاشاعات المغرضة.لا تطمئن النفس من كثير مما يُنشر من معلومات حساسة تصل إلينا حتى من أقرب الناس لخلوها من عزو للمصادر، ومصادمتها للمنطق، وافتقارها للتدقيق العلمي.